نشوء التقاتل والتهاجر بسبب هذه الجاهليات
وكل بيئة لها نوع معين من الحرف ومن المهن محتقرة، ونوع آخر معظم ومفضل، ويقع التهاجر، والتنازع، والتخاصم، وتقع العداوات، وكم كانت تتقاتل القبائل من أجل هذه القضية، فيقتتلون من أجل أن رجلاً يمتهن مهنة كذا خطب أو تزوج من القبيلة، فاكتشفوا أنه كان حداداً، أو جزاراً، أو خرازاً مثلاً، فكل منطقة لها جاهليتها، فعندئذ يراد منه أن يطلق امرأته، وهي راضية به، وهو راض بها، بل حتى أهلها وأهله راضون، فقد اتفقوا وتم كل شيء، لكن تجد القبيلة تقول: يجب أن يقع الطلاق؛ لأن القبيلة لا تريد أن يدنس شرفها وكبرياؤها، فتقوم الحروب، فتقتتل الطائفتان، وتقع الملاحم بسبب هذه الجاهلية.فجعلوا التفاضل بين الناس حتى في الحرف، وحتى في المهن، وهؤلاء الجاهليون يجعلون مهنة الزراعة هي المهنة والحرفة التي لا عيب فيها؛ لأنها مهنة الأكثرين مثلاً، والزراعة ليس فيها شيء من حيث إنها حرفة، لكن هي التي نيط وركب وقرن بها الذل في الشرع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا تبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد، واشتغلتم بالزرع، وأخذتم بأذناب البقر؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم )، فلو أن التفضيل يكون بالحرف لكان الفلاحون والمزارعون هم الأقل، ولكن من يشتغل بالزرع والحرث، ويتشاغل به عن الجهاد؛ يستحق أن تدنى درجته ومرتبته، وأن يفضل عليه غيره، لكن هم لا ينظرون إلى هذا، وإنما ينظرون إلى مهنة أو حرفة اختاروها هم.